حرب من نوع آخر لوثت البحر المتوسط ... الآثار البيئية للعدوان الإسرائيلي على لبنان
نادين حداد الحياة - 10/09/06//تسرب نفطي هائل لوث البحر المتوسط، وحرائق وقود ومصانع وغابات لوثت الأجواء، ودمار في الأبنية السكنية والتجارية والجسور والطرق والبنى التحتية، وخسائر ببلايين الدولارات في جميع القطاعات الاقتصادية
البقعة النفطية التي تقدر بنحو 15 ألف طن من الفيول (زيت الوقود الثقيل)، والتي تسربت الى بحر لبنان بعد قصف خزانات محطة توليد الطاقة في الجية على بعد 30 كيلومتراً جنوب بيروت في 13 و15 تموز (يوليو) الماضي، كانت أبرز مشكلة بيئية خلفها العدوان الاسرائيلي على لبنان. وهي امتدت شمالاً مسافة لا تقل عن 150 كيلومتراً، وبلغت الساحل السوري، واعتبرت «أسوأ كارثة بيئية» تحل بالبحر المتوسط. وبما أن هذا البحر شبه مغلق، «فإن الملوثات قد تبقى في المياه قرناً من الزمن»، كما صرح لويس كولاسيموني، المسؤول الإعلامي في خطة عمل البحر المتوسط التابعة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.
متطوعون يسحبون نفطاً من ميناء جبيل ويخزنونه
وحذر وزير البيئة في لبنان يعقوب الصراف من ان «الحياة البحرية والنظام الايكولوجي في البحر المتوسط مهددان بأسوأ العواقب، وان ثمة أنواعاً معينة معرضة للانقراض». وقال مدير عام وزارة البيئة برج هتجيان ان «تنظيف شواطئ لبنان، التي كانت توصف في ما مضى بالذهبية وتشكل حتى ما قبل القصف مقاصد رئيسة لاجتذاب السكان المحليين والسياح، سيكلف نحو 150 مليون دولار، ولن يتم الانتهاء منه حتى الصيف المقبل»، فيما أكد خبراء دوليون أن عملية التنظيف قد تستغرق خمس سنوات، وهناك اجماع على وجوب المباشرة فوراً، اذ أن كل يوم تأخير يفاقم الوضع.
في اجتماع عقد في ضاحية بيرايوس قرب أثينا في 17 آب (أغسطس)، أعلن مسؤولو المنظمة البحرية الدولية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة والاتحاد الأوروبي أنهم سيطلبون مساعدة مالية دولية لاحتواء التسرب النفطي، الذي يمثل أيضاً خطراً على قبرص وتركيا واليونان. وقدرت تكاليف العملية بنحو 65 مليون دولار. واعتبر المدير التنفيذي للبرنامج أخيم شتاينر ان الكارثة ''حال طوارئ بيئية رئيسية''. وكانت الوكالة والبرنامج أوفدا خبراء الى المنطقة للمساعدة على إعداد خطط لإزالة آثار التسرب.
وستقدم المفوضية الأوروبية للبيئة 13 مليون دولار «مساعدة أولية» للتعامل مع التسرب، علماً أن معدات تنظيف وصلت من النروج وضعت في المنطقة للشروع في إزالة البقعة. وقدم صندوق أوبك للتنمية الدولية مساهمة مالية فورية قيمتها 200 ألف دولار لشراء معدات رئيسة بواسطة مكتب الأمم المتحدة للتنسيق والشؤون الإنسانية. وأرسلت الكويت معدات لاحتواء النفط وامتصاصه. وباشرت جمعيات أهلية مثل «الخط الأخضر» و «بحر لبنان» و «بيبلوس ايكولوجيا» ونقابة الغواصين المحترفين، والجيش اللبناني، برصد التلوث وتنظيف الشواطئ منذ وقف إطلاق النار. وأبدت الجامعة اللبنانية الأميركية استعدادها لجلب واستنبات نوع مطور من البكتيريا المحللة للنفط لاستخدامها في عملية تنظيف بيولوجي للشواطئ الرملية. وقال الدكتور فؤاد حشوة، عميد كلية الآداب والعلوم وأستاذ الميكروبيولوجيا في الجامعة، ان بحر لبنان وشاطئه سينظفان تلقائياً الى حد كبير خلال أقل من سنة، خصوصاً بحركة الأمواج في فصل الشتاء، «ولكن بعد عمليات التنظيف الفيزيائي والكيماوي تأتي المعالجة البيولوجية التي تسرّع التنظيف ولا تتطلب إلا مواد بسيطة كالنيتروجين والفوسفور، كما حصل في عمليات معالجة التلوث الذي تسببت به الناقلة اريكا عام 1999 عندما سربت 13 ألف طن من النفط في المحيط الأطلسي قبالة فرنسا». وفي 28 و29 آب (أغسطس) قام فريق خبراء من المركز الاقليمي للاستجابة لحالات طوارئ التلوث البحري في المتوسط (REMPEC)والاتحاد الأوروبي ووزارة البيئة، في طائرة هليكوبتر لقوات الطوارئ الدولية (UNIFIL) بمسح جوي على طول الشاطئ اللبناني بعرض 5 أميال بحرية (9 كيلومترات) في المياه الإقليمية. وأفادت أنها لم تعاين أي بقعة نفطية في البحر، وأن التلوث الأكبر هو على الشواطئ وخصوصاً الخلجان والمرافئ. وقدر العقيد البحري ميشال الهاشم من الجيش اللبناني، الذي يشارك مع وزارة البيئة في تنظيف الشاطئ، ألا تتجاوز كميات الفيول المفترض سحبها حتى نهاية عملية التنظيف 2000 طن، مقدراً الكمية التي التصقت بالشاطئ اللبناني بنحو 8000 طن.
تلوث الهواء: دخان وغبار ورذاذ سامقصف محطة توليد الطاقة في الجية أضرم حريقاً دام أكثر من عشرة أيام. والغيمة الدخانية السامة التي امتدت شمالاً أكثر من 30 كيلومتراً غطت العاصمة بيروت عدة أيام، محولة ضوء النهار الى غسق.
قال ماهر علي، وهو صياد سمك من بلدة الجية: «عندما كانت الرياح تهب من الشمال كان الوضع محمولاً، لكن عندما تهب من الشرق كان الوضع مميتاً. فالشحتار (السخام) يهبط على الطعام والأثاث، حتى أنك لا تستطيع أن تترك كوب ماء قربك. هذا الأمر، أكثر من خوف القصف، دفع آلاف العائلات الى مغادرة المنطقة».
وأفاد مركز المعلومات الخاص باتفاقية برشلونة ان «مركبات شديدة التطاير، خصوصاً بوجود درجات حرارة عالية، انتشرت في الهواء من محطة توليد الكهرباء. وأول الذين تعرضوا للخطر من جراء استنشاق الرذاذ السام هم سكان منطقة بيروت الكبرى». ووصف المواد المتسربة بأنها «تشكيلة سامة بالغة الخطورة مكونة من مركّبات تسبب أمراضاً سرطانية وتلحق تلفاً بجهاز الغدد الصم».
تلوث الهواء في لبنان لا يخضع لرصد إلا في بيروت، وفي شكل محدود جداً، حيث تفحص بضعة مؤشرات مثل اول اوكسيد الكربون واوكسيدات النيتروجين وثاني اوكسيد الكبريت، وفقط في مناطق معينة. وكشف الدكتور توفيق رزق، عميد كلية العلوم في جامعة القديس يوسف وعضو الفريق العامل في مشروع مراقبة هواء بيروت، أن عمليات القياس في محطة المراقبة المركزية الكائنة في حرج بيروت أوقفت عن العمل بعد أسبوع من بدء الحرب خشية أن يستهدف الاسرائيليون معداتها.
خريطتان لانتشار بقعة النفط على طول الساحل اللبناني استهداف البنية التحتية والمراكز الصناعية وخزانات النفط، كما في الجية ومطار رفيق الحريري الدولي، لوث الأجواء بانبعاثات وغبائر سامة. فالرياح تنقل جسيمات الغبار كيلومترات عدة بعيداً الى شمال بيروت والى الجبال المجاورة شرقاً. وأكدت المواطنة هدى سلامة ذلك بقولها: «لا مكان للاختباء. انه وقود يتساقط من السماء. غادرت منزلي في بيروت لأنني لم أعد أستطيع التنفس، لكن السخام تبعني على طول الطريق المؤدية الى كفرذبيان على ارتفاع 1150 متراً عن سطح البحر وعلى بعد 44 كيلومتراً من بيروت».
اختلاط المياه العذبة والمبتذلة وتراكم النفايات والأنقاضتلوث المياه ونقصها داخل الأماكن التي لجأ اليها المهجرون رفعا عدد الأشخاص الذين عانوا من اسهال وأمراض أخرى لها علاقة بالنظافة، خصوصاً الأطفال والمسنين. لقد نزح أكثر من مليون شخص عن ديارهم أثناء العمليات الحربية التي بدأت في 12 تموز (يوليو) ودامت حتى 14 آب (أغسطس). وأقام معظمهم في مدارس ومراكز اجتماعية وأديرة وأماكن تجمّع أخرى، لم تكن مهيأة لاستقبال هذا العدد الكبير من الناس خلال 34 يوماً.
المهندس كريم الجسر من شركة Ecodit للاستشارات البيئية قال ان تمديدات مياه الصرف ومياه الشرب قريبة جداً بعضها من بعض، وقد تضررت بفعل القصف العنيف والمكثف، فلوثت المياه المبتذلة شبكة امدادات المياه العذبة. وأشار الى مخاوف من تلوث المياه كيماوياً، لأن نوعية بعض الصواريخ والقنابل التي أطلقت، خصوصاً على القرى الجنوبية، لا تزال غير معروفة.
استمرار الغارات على الطرق والشاحنات جعل جمع النفايات مهمة صعبة. وتفاقم الوضع في بيروت والمناطق التي تشملها خدمات شركة «سوكلين»، اذ ان معظم العمال السوريين العاملين فيها عادوا الى بلادهم، كما استهدف القصف مراراً منطقة الناعمة حيث يوجد المطمر، على بعد 20 كيلومتراً جنوب بيروت. ونتيجة لذلك كانت أكياس النفايات تتكدس عدة أيام في أماكن التجميع مهددة بانتشار الأمراض والحشرات.
أظهرت أزمة النفايات الصلبة عدم قدرة البلديات على ادارة نفاياتها، اذ أن غالبيتها اعتمدت الحرق بعد أن تأخرت «سوكلين» عن جمعها. كما أظهرت الأزمة ضعف وعي لدى السكان الذين استمروا في انتاج كميات النفايات ذاتها فيما هم يشاهدون أكياسها مكدسة في الشوارع.
الغارات على المراكز الصناعية والمستشفيات والمباني السكنية والتجارية ولدت أيضاً أطناناً من النفايات السامة التي تحتاج الى معالجة خاصة. وأشارت زينة الحاج من منظمة «غرينبيس» الى أن «الهجمات على مصنع لإنتاج بلاستيك PVC في صور خلفت رماداً ساماً يجب التخلص منه بأمان تجنباً لتلويث الهواء والتربة والمياه الجوفية».
ولم تصدر وزارة البيئة تقارير عن الاجراءات التي سوف تتخذ ولا عن الأضرار التي لحقت بغرف تخزين النفايات الطبية، خصوصاً الكيماوية والاشعاعية، في المستشفيات والمراكز الصحية المتضررة. وفي زيارة لمندوبة مجلة «البيئة والتنمية» الى موقع مستشفى بهمن في منطقة حارة حريك، الذي يضم وحدة للمعالجة بالمواد الكيماوية، أخبرها أحد الحراس أن غرفة تخزين النفايات الطبية تضررت الى حد بعيد نتيجة غارة اسرائيلية.
بعد انتهاء الحرب، لا بد من إعادة فتح ملف النفايات الصلبة. فإضافة الى مشكلة النفايات البلدية المزمنة، تشكل الأنقاض والسيارات المتضررة والمركبات الحربية المدمرة والنفايات الأخرى المتولدة أثناء الحرب مسألة خاصة يجب دراستها بتمعن. وهناك الكثير من فرص إعادة التدوير التي يجب انتهازها تجنباً لكارثة بيئية جديدة.
تلف المزروعات وحرائق الغاباتعوامات لحصر النفط على شاطىء الرملة البيضاءفصل الصيف في لبنان هو الموسم الرئيسي لقطاع الزراعة، لذا كانت خسائره كبيرة من جراء الحرب. ويعتبر البقاع والجنوب المنطقتين الزراعيتين الرئيسيتين في لبنان، وكان كلاهما مسرحاً لمعارك طاحنة.
انعدام الأمن وشلل قطاع النقل منعا المزارعين من حصاد محصولهم وإيصال منتجاتهم الى الأسواق. يضاف الى ذلك نقص الأيدي العاملة، حيث غادر معظم العمال السوريين الى بلادهم فور بدء الحرب. وأضرم القصف حرائق في كثير من بساتين الزيتون والفاكهة. ونتيجة لهذا الوضع، ترك المزارعون حقولهم وبساتينهم وباتوا يواجهون صعوبات مالية، خصوصاً أن معظمهم مدينون للمصارف والشركات الزراعية بمبالغ كانوا ينوون تسديدها بعد بيع الغلال. وقد يؤدي هذا الأمر، في حال لم يتم التعويض على المزارعين، الى هجر أراضيهم مما سيعرضها على المدى البعيد للتصحر. وأفاد تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي أن خسائر الزراعة في الجنوب تجاوزت 110 ملايين دولار. كما قدرت الخسائر الأولية في البقاع بنحو 100 مليون دولار. لكن وزير الزراعة طلال الساحلي قال ان الخسائر «أكبر بكثير مما ذكره تقرير برنامج الأمم المتحدة الانمائي»، مضيفاً أن هناك خسائر كبيرة لم يذكرها، مثل قطاع السمك والدواجن والنحل والبنى التحتية.
وقدرت مصادر الدفاع المدني اللبناني عدد الحرائق التي نشبت في الغابات وغيرها من المساحات الخضر بفعل القصف بنحو 100 حريق يومياً، علماً أن شهري تموز (يوليو) وآب (أغسطس) يشهدان ذروة موسم الحرائق. وكانت الغابات والحقول تشتعل ولا من يخمدها، اذ انشغل رجال الإطفاء بإخماد الحرائق المندلعة في المباني المقصوفة.
تبقى مشكلة الألغام والقذائف غير المنفجرة والتي لا تقل عادة عن 10 في المئة من القذائف الملقاة. ويقدر أن القوات الاسرائيلية ألقت نحو 153 ألف قنبلة خلال الحرب الأخيرة، ما يعني وجود 15 ألف قنبلة غير منفجرة على الأقل منتشرة في مناطق مختلفة. وقال تود هارت من مكتب نزع الألغام التابع للأمم المتحدة ان «المكتب حدد حتى 24 آب (أغسطس) نحو مئتي موقع يوجد فيها قنابل عنقودية و1500 من الذخائر الفردية والمدفعية». وتعمل فرق من المكتب والجيش اللبناني على مسح المناطق المستهدفة. تجدر الإشارة الى أنه يصعب تمييز معظم القنابل العنقودية الصغيرة، اذ غالباً ما تكون مخبأة بين الحصى أو مغطاة بالتراب والغبار، وهي حساسة جداً ويمكن أن تنفجر بمجرد لمسها.
إجهاض الموسم السياحيكان موسم السياحة واعداً هذا الصيف، وبدأ مئات ألوف السياح والمغتربين يتدفقون على لبنان. وما ان بدأت الحرب حتى لاذوا بالفرار. وأفاد مجلس الإنماء والإعمار أن فاتورة الأضرار التي لحقت بالقطاع السياحي بلغت أكثر من ثلاثة مليارات دولار حتى 31 تموز، لكن البقعة النفطية والغابات المحروقة والبنية التحتية المتضررة ستؤثر في هذا القطاع سنوات مقبلة.
تقول فاتن عضاضة، المتخصصة في تنمية البيئة الريفية: «انني أعمل منذ خمس سنوات في عكار (شمال لبنان) لاطلاق مشروع سياحي تنموي لاحياء هذه المنطقة الغارقة في النسيان. وكان حلمي على وشك أن يصبح حقيقة، فقد وافق صندوق دولي مبدئياً على تمويل مشروع السياحة البيئية الذي طال انتظاره. والآن سينام مشروعي في الأدراج سنوات، فثمة مشاريع أكثر إلحاحاً». وترى عضاضة أن مشاريع التنمية الريفية هي المفتاح لمساعدة المجتمعات القروية في الوقوف على أقدامها مجدداً، ومنع حدوث هجرة من الأرياف مماثلة لتلك التي أعقبت الحرب الأهلية اللبنانية التي انتهت في أوائل التسعينات.
ما زال من المبكر تقويم الضرر الفعلي الذي سببته الحرب الإسرائيلية على لبنان، كما أن تحليل عينات تلوث الهواء والمياه والتربة سيستغرق وقتاً لا يستهان به. ولكن استباقاً لفورة الإعمار المقبلة، يجب اجراء مسح شامل للأضرار، ووضع خطة تنمية مستدامة تشمل جميع قطاعات البنية التحتية والاقتصاد، وتأخذ في الاعتبار المعايير البيئية الدولية لاجتناب المزيد من تدهور البيئة اللبنانية.
شارك في جمع المعلومات من المواقع المصابة:بوغوص غوكاسيان، محمد السارجي، ليا قاعي، نسرين عجب